في مصر القديمة وبلاد الرافدين كانت المعارف قد دونت للحاجة العملية لها. فالرصد الفلكي أدى لظهور التقويم لتنظيم مواسم الزراعة والحصاد. وكانت للحضارة الإغريقية سمة الفلسفة التأملية فيما وراء الطبيعة (الميتافزيقيا)، والفليسوف الإغريقي طاليس (Thales)، وتبعوه وقالوا أن الأرض قرص يطفو فوق الماء وتدور في دائرة ولا تدور حول الشمس ولكن تدور حول كرة نار مركزية، هي مركز الكون. وقال بعده الفليسوف الإغريقي فيثاغورث (Pythagoras) أن الأرض كروية. لكن في الإسكندرية، قام الفلكي المصري بطليموس بوضع خريطة للسماء وضع عليها مواقع الكواكب والنجوم المعروفة وقتها، ووضع الأرض كمركز للكون. وبصفة عامة لم تتقدم العلوم في الإمبراطورية الرومانية. وأفلت المدارس الإغريقية وأغلقت عام 529م، بسبب إنتشار المسيحية التي فرضتها روما علي معظم بلدان العالم القديم التابعة لها في مصر واليونان وآسيا الصغري والشام وأجزاء من جنوب أوروبا. وظلت الأمور كذلك منذ عام 500م ولمدة تسعة قرون حتى عام 1400م، ظهرت خلالها الحضارتان الإسلامية والصينية. وهاتان الحضارتان كانتا حضارتين متفردتين ومنعزلتين عن الغرب. فالصينيون القدماء برعوا في الفلك. فرصدوا مستعراً أعظم (انفجار نجم) بسديم السرطان سنة 1054م. وقد رسمت أقدم خريطة للنجوم في الصين عام 940م. وفي العالم الإسلامي انتشرت الحضارة الإسلامية حتي بلغت إسبانيا بالعصور الوسطى. وفي الفلك نجد العرب قد رصدوا النجوم الساطعة ووضعوها علي الخرائط الفلكية وأطلقوا عليها الأسماء العربية التي ما زالت تستعمل حتي اليوم، كنجوم الدبران والطاسر والذنب. وفي الكيمياء اخترعوا طرقاً لصنع الفلزات من المعادن واختبروا جودتها ونقاوتها. وأطلقوا مصطلحات منها كلمة الكيمياء (alchemy) والقلوي (alkali). وطوَّروا علم الفيزياء، ومن أشهر الفيزيائيين العرب ابن الهيثم وهو مصري نشر كتاب المناظر في البصريات والعدسات والمرايا وغيرها من الأجهزة التي تستخدم في البصريات. ورفض فكرة انبعاث الضوء من العين, لكنه أقرَّ بأن العين تبصره عندما تقع أشعة الضوء من الوسط الخارجي عليها. وهذا ما نعرفه حالياً. وبعدما ترجم التراث العربي لللغات الأوربية ولا سيما بعد اختراع جوهانزبرج الطباعة، فطبعت النسخ من هذا التراث وشاعت العلوم العربية وأمكن الحصول عليها هناك بسهولة ويسر.
وبعد ظهور وباء الطاعون (الموت الأسود) سنة 1347م، تأخر التقدم العلمي في أوروبا زهاء قرنين حتي سنة 1543م، عندما نشر كتاب له دلالة كبرى في الفلك كان بعنوان “في دورات الكرات السماوية” (De Revolutionibus Orbium Coelestium) للفلكي البولندي نيكولاس كوبرنيكس، حيث رفض فيه فكرة أن الأرض مركز الكون كما وضعها بطليموس في القرن الأول ق.م في كتابه المجسطي، والذي ترجمه العرب. كما بيَّن كوبرنيكس – أيضاً – أن الأرض والكواكب الأخرى تدور حول الشمس. ومنعت الكنيسة الكاثوليكية كتابه من التداول لمدة قرنين بل كفرته رغم صحة ما قاله. لكن في العقد الأول من القرن 17 ثبتت صحة كوبرنيكس، ولا سيما بعد اختراع التلسكوب، حيث استخدمه جاليليو جاليلي ليكون أول شخص يرى أقماراً تدور حول كوكب المشتري، ورأى وجه القمر ورسمه بالتفصيل. كما رأى كوكب الزهرة يتضاءل وهو يدور حول الشمس. واتهم جاليليو وكوبرنيكس اللذان صححا كثيراً من المفاهيم الفلكية بالهرطقة. وهذا ما جعل جاليليو يتراجع عن أفكاره.
لكن كان أعظم إنجازات العلم في القرن 17، عندما استطاع الفيزيائي والرياضي الإنجليزي إسحاق نيوتن عام 1665م وضع نظريات عن طبيعة الضوء والجاذبية الكونية التي اعتبر أنها تمتد في كل الكون، وأن كل الأشياء تنجذب لبعضها بقوة معروفة، والقمر مشدود في مداره بسبب الجاذبية التي تؤثر علي حركة المد والجزر بالمحيطات فوق الأرض. وفي عصر التنوير (The Age of Enlightenment) كان نيوتن قد بين بالقرن 18 أن الطبيعة (الوجود) محكومة بقوانبن أساسية تجعلنا ننهج المنهج العلمي، وهذا ما حرَّر علماء هذا القرن وجعلهم يقتربون من الطبيعة، لأن الاكتشافات حررتهم من أسر السلطة الدينية وأفكار وحكمة الكتابات القديمة والتي لم تخضع للتجارب. وهذا التوجه العقلاني والعلمي أدخل العلم في عصر السببية (الأسباب) “Age of Reason” أو ما يسمى بعصر التنوير “Age of Enlightenment” حيث طبَّق علماء القرن 18 بشدة الفكر العقلي والملاحظة الواعية والتجارب لحل المسائل المختلفة. وفي علوم الأرض نجد القرن 19 قد شهد تطوراً كبيراً، حيث قدر عمر الأرض بما بين 100,000 سنة ومئات الملايين من السنين. وفي الفلك مع التطور الهائل في الأجهزة البصرية، تحقَّقت اكتشافات هامة. ففي عام 1801 لوحظت المذنبات ومدار كوكب أورانوس الشاذّ. فلقد توقع لفلكي الفرنسي جيان جوزيف ليفرييه (Jean Joseph Leverrier) أن كوكبا مجاور لأورانوس يؤثر علي مداره، وفد استخدم الحسابات الرياضية لمعرفة ذلك. وقد قام العالم الفلكي الألماني جوهام جال (Johann Galle) في عام 1846 بمساعدة العالم ليفرييه باكتشاف كوكب نبتون. وكان الفلكي الإيرلندي وليام بارسونز (William Parsons) أول من شاهد شكل المجرات الحلزونية فيما وراء نظامنا الشمسي، عن طريق التلسكوب العاكس العملاق (وقتها) عام 1840.
وفي سنة 1900 توصل الفيزيائي الألماني ماكس بلانك (Max Planck) لنظرية الكم (quantum theory) التي بيَّنت كيف أن الجسيمات دون الذرية تكون الذرات، وكيف أن الذرات تتفاعل معاً لتكوين المركبات الكيميائية. وبعده جاء ألبرت آينشتين (Albert Einstein) وأعلن نظريتي النسبية العامة والخاصة. وفي سنة 1934 توصل العالم الفيزيائي الإيطالي – الأمريكي إنريكو فيرمي (Enrico Fermi) لكيفية ارتطام نيترون بذرات العناصر بما فيها عنصر اليورانيوم، وبدون تدخل أي شحنات كهربائية. ففي هذه التجارب اتَّحدت النيترونات مع أنوية اليورانيوم، ممَّا أحدث انشطاراً نووياً أسفر عن تحرر طاقة نووية هائلة. والعلماء في الفيزياء عرفوا أن الذرات تتكون من 12 جسيم أساسي كالكواركات (quarks) واللبتونات (leptons). وهذه الجسيمات الأساسية تتحد معاً بطرق مختلفة مكونة مختلف المواد المعروفة لنا. فالتطور في فيزياء الجسيمات (particle physics) له صلة بالتقدم العلمي في علم الكون. حيث بين عام 1920 عالم الفيزياء المريكي إدوين هبل (Edwin Hubble) أن الكون يتمدد. وحالياً، يؤمن العلماء في نظرية الانفجار الكبير (Big Bang Theory) حيث ولد الكون منذ 13 بليون سنة من انفجار كبير، ولا زالت نهاية الكون مثار جدلٍ حتى الآن.
ومنذ سنة 1950 انهالت الاكتشافات والأحداث الفضائية والأقمار الصناعية. وأرسلت روسيا سبوتنيك أول قمر صناعي عام 1957 للفضاء. وفي نفس العام كان يوري جاجارين الروسي أول من يدور به حول الأرض. وفي سنة 1969 هبط أول إنسان أمريكي فوق القمر. وأرسلت أمريكا ما بين سنتي 1960 و1970 مسابر مارينر الفضائية لاستكشاف كواكب عطارد والزهرة والمريخ. وقد نجحت هذه المسابر في التمهيد للوصول لبقية الكواكب بالمجموعة الشمسية. واستخدمت أمريكا مكوكات الفضاء، واكتشفت التلسكوبات ولا سيما التلسكوبات العملاقة فتوغل من خلالها لأعماق الكون. فرأى ما لم يره بشر من قبل من مجرات عملاقة وبلايين النجوم. واستطاع من خلال تقنياته المتطورة إرسال مركبات ومسابر فضائية جُهِّزت بأحدث ماتوصل إليه العلم الحديث. ووصل الإنسان في النصف الثاني من القرن العشرين للقمر وتجاوز فيه إسار جوه المحيط بالأرض، لينطلق في عصر الفضاء لأول مرة في تاريخ البشرية.
المصدر: كتاب تاريخ الفلك
تأليف: د. أحمد محمد على عوف
2004 م